الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب نَحْرِ الْبُدْنِ قِيَامًا مُقَيَّدَةً: 2330- قَوْلُهُ: «ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أي الْمُقَيَّدَةُ الْمَعْقُولَةُ، فَيُسْتَحَبُّ نَحْرُ الْإِبِلِ وَهِيَ قَائِمَةٌ مَعْقُولَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى، صَحَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا. إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، أَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُذْبَحَ مُضْجَعَةً عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ، وَتُتْرَكَ رِجْلُهَا الْيُمْنَى وَتُشَدَّ قَوَائِمُهَا الثَّلَاثُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِحْبَابِ نَحْرِهَا قِيَامًا مَعْقُولَةً هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يَسْتَوِي نَحْرُهَا قَائِمَةً وَبَارِكَةً فِي الْفَضِيلَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ نَحْرَهَا بَارِكَةً وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..باب اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ لِمَنْ لاَ يُرِيدُ الذَّهَابَ بِنَفْسِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِهِ وَفَتْلِ الْقَلاَئِدِ وَأَنَّ بَاعِثَهُ لاَ يَصِيرُ مُحْرِمًا وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ شيء بِذَلِكَ: 2331- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهْدِي مِنْ الْمَدِينَة فَأَفْتِل قَلَائِد هَدْيه ثُمَّ لَا يَجْتَنِب شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِب الْمُحْرِم» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْهَدْي إِلَى الْحَرَم، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَذْهَب إِلَيْهِ يُسْتَحَبّ لَهُ بَعْثه مَعَ غَيْره، وَاسْتِحْبَاب تَقْلِيده وَإِشْعَاره، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى بَعْد هَذِهِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْر الْخِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي الْإِشْعَار، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور اِسْتِحْبَاب الْإِشْعَار وَالتَّقْلِيد فِي الْإِبِل وَالْبَقَر، وَأَمَّا الْغَنَم فَيُسْتَحَبّ فيها التَّقْلِيد وَحْده. وَفيه اِسْتِحْبَاب فَتْل الْقَلَائِد. وَفيه أَنَّ مَنْ بَعَثَ هَدْيه لَا يَصِير مُحْرِمًا وَلَا يَحْرُم عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يَحْرُم عَلَى الْمُحْرِم، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا حِكَايَة رُوِيَت عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَحَكَاهَا الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَهْل الرَّأْي أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ اِجْتِنَاب مَا يَجْتَنِبهُ الْمُحْرِم، وَلَا يَصِير مُحْرِمًا مِنْ غَيْر نِيَّة الْإِحْرَام، وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الْجُمْهُور، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.2333- قَوْلهَا: «فَتَلْت قَلَائِد بُدْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْت، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْء كَانَ لَهُ حَلَالًا» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْجَمْع بَيْن الْإِشْعَار وَالتَّقْلِيد فِي الْبُدْن، وَكَذَلِكَ الْبَقَر. وَفيه أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ هَدْيَة أَشْعَرَهُ وَقَلَّدَهُ مِنْ بَلَده، وَلَوْ أَخَذَهُ مَعَهُ أَخَّرَ التَّقْلِيد وَالْإِشْعَار إِلَى حِين يُحْرِم مِنْ الْمِيقَات أَوْ مِنْ غَيْره.2335- قَوْلهَا: «أَنَا فَتَلْت تِلْكَ الْقَلَائِد مِنْ عِهْن» هُوَ الصُّوف، وَقِيلَ: الصُّوف الْمَصْبُوغ أَلْوَانًا.2338- قَوْلهَا: «أَهْدَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّة إِلَى الْبَيْت غَنَمًا فَقَلَّدَهَا» فيه دَلَالَة لِمَذْهَبِنَا وَمَذْهَب الْكَثِيرِينَ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ تَقْلِيد الْغَنَم، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة لَا يُسْتَحَبّ، بَلْ خَصَّا التَّقْلِيدَ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَر وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الدَّلَالَة عَلَيْهِمَا.2339- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جُحَادَة) هُوَ بِجِيمِ مَضْمُومَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة مُخَفَّفَة.2340- قَوْله: عَنْ عَمْرَة بِنْت عَبْد الرَّحْمَن أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ اِبْن زِيَاد كَتَبَ إِلَى عَائِشَة أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس قَالَ (مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُم عَلَى الْحَاجّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم (أَنَّ اِبْن زِيَاد) قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَالْمَازِرِي وَالْقَاضِي وَجَمِيع الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى صَحِيح مُسْلِم: هَذَا غَلَط، وَصَوَابه أَنَّ زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان وَهُوَ الْمَعْرُوف بِزِيَادِ اِبْن أَبِيهِ، وَهَكَذَا وَقَعَ عَلَى الصَّوَاب فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَالْمُوَطَّأ وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرهَا مِنْ الْكُتُب الْمُعْتَمَدَة، وَلِأَنَّ اِبْن زِيَاد لَمْ يُدْرِك عَائِشَة. وَاَللَّه أَعْلَم..باب جَوَازِ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا: 2342- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوق بَدَنَة فَقَالَ: اِرْكَبْهَا، قَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّهَا بَدَنَة قَالَ: اِرْكَبْهَا. وَيْلك. فِي الثَّانِيَة أَوْ فِي الثَّالِثَة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَيْلك اِرْكَبْهَا وَيْلك اِرْكَبْهَا» وَفِي رِوَايَة جَابِر: «اِرْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِد ظَهْرًا». هَذَا دَلِيل عَلَى رُكُوب الْبَدَنَة الْمُهْدَاة.وَفيه مَذَاهِب: مَذْهَب الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يَرْكَبهَا إِذَا اِحْتَاجَ، وَلَا يَرْكَبهَا مِنْ غَيْر حَاجَة، وَإِنَّمَا يَرْكَبهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْر إِضْرَار، وَبِهَذَا قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَجَمَاعَة، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ مَالِك، وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَمَالِك فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَأَحْمَد وَإِسْحَاق: لَهُ رُكُوبهَا مِنْ غَيْر حَاجَة بِحَيْثُ لَا يَضُرّهَا، وَبِهِ قَالَ أَهْل الظَّاهِر.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَرْكَبهَا إِلَّا أَنْ لَا يَجِد مِنْهُ بُدًّا. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ أَوْجَبَ رُكُوبهَا الْمُطْلَق لِأَمْرٍ وَلِمُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِ مِنْ إِكْرَام الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْحَامِي وَإِهْمَالهَا بِلَا رُكُوب. دَلِيل الْجُمْهُور أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى وَلَمْ يَرْكَب هَدْيه وَلَمْ يَأْمُر النَّاس بِرُكُوبِ الْهَدَايَا. وَدَلِيلنَا عَلَى عُرْوَة وَمُوَافِقِيهِ رِوَايَة جَابِر الْمَذْكُورَة. وَاَللَّه أَعْلَم.2343- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلك اِرْكَبْهَا» فَهَذِهِ الْكَلِمَة أَصْلُهَا لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَة فَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا قَدْ وَقَعَ فِي تَعَب وَجَهْد، وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَة تَجْرِي عَلَى اللِّسَان، وَتُسْتَعْمَل مِنْ غَيْر قَصْد إِلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا بَلْ تُدَعِّم بِهَا الْعَرَب كَلَامهَا كَقَوْلِهِمْ: لَا أُمّ لَهُ، لَا أَب لَهُ، تَرِبَتْ يَدَاهُ، قَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه، وَعَقْرَى حَلْقَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة مُسْتَوْفَاة فِي كِتَاب الطَّهَارَة فِي تَرِبَتْ يَدَاك.2344- قَوْله: (حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس قَالَ وَأَظُنّنِي قَدْ سَمِعْته مِنْ أَنَس) الْقَائِل وَأَظُنّنِي قَدْ سَمِعْته مِنْ أَنَس هُوَ حُمَيْد، وَوَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (وَأَظُنّنِي) بِنُونَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا (وَأَظُنِّي) بِنُونٍ وَاحِدَة وَهِيَ لُغَة.2345- قَوْله: «قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة أَوْ هَدِيَّة فَقَالَ: وَإِنْ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (وَإِنْ) فَقَطْ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ بَدَنَة. وَاَللَّه أَعْلَم..باب مَا يُفْعَلُ بِالْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ: 2348- قَوْله: (عَنْ أَبِي التَّيَّاح الضُّبَعِيِّ)، التَّيَّاح بِمُثَنَّاةٍ فَوْق ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت وَبِحَاءٍ مُهْمَلَة، وَالضُّبَعِيّ بِضَادِ مُعْجَمَة مَضْمُومَة وَبَاء مُوَحَّدَة مَفْتُوحَة اِسْمه (يَزِيد بْن حُمَيْدٍ الْبَصْرِيّ) مَنْسُوب إِلَى بَنِي ضُبَيْعَةَ بْن قَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن عُكَابَة بْن صَعْب بْن عَلِيّ بْن بَكْر بْن وَائِل بْن قَاسِط بْن هِنْب بْن أَفْصَى بْن دُعْمِيّ بْن جُدَيْلَة بْن أَسَد بْن رَبِيعَة بْن نِزَار بْن مَعَدّ بْن عَدْنَان، قَالَ السَّمْعَانِيّ: نَزَلَ أَكْثَر هَذِهِ الْقَبِيلَة الْبَصْرَة وَكَانَتْ بِهَا مَحَلَّة تُنْسَب إِلَيْهِمْ. قَوْله: «وَانْطَلَقَ بِبَدَنَةٍ يَسُوقهَا فَأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الزَّاي وَفَتْح الْحَاء الْمُهْمَلَة، هَذَا رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ لَا خِلَاف بَيْنهمْ فيه، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَذَا يَقُولهُ الْمُحَدِّثُونَ، قَالَ: وَصَوَابه وَالْأَجْوَد: «فَأُزْحِفَتْ» بِضَمِّ الْهَمْزَة يُقَال: زَحْف الْبَعِير إِذَا قَامَ، وَأَزْحَفَهُ.وَقَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: يُقَال: أَزْحَفَ الْبَعِير وَأَزْحَفَهُ السَّيْر بِالْأَلِفِ فيهمَا وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، يُقَال: زَحَفَ الْبَعِير وَأَزْحَف لُغَتَانِ، وَأَزْحَفهُ السَّيْر، وَأَزْحَف الرَّجُل وَقَفَ بَعِيره، فَحَصَلَ أَنَّ إِنْكَار الْخَطَّابِيّ لَيْسَ بِمَقْبُولٍ، بَلْ الْجَمِيع جَائِز، وَمَعْنَى (أَزْحَف) وَقَفَ مِنْ الْكَلَال وَالْإِعْيَاء.قَوْله: «فَعَيِيَ بِشَأْنِهَا إِنْ هِيَ أُبْدِعَتْ كَيْف يَأْتِي بِهَا» أَمَّا قَوْله: (فَعَيِيَ) فَذَكَرَ صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع أَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه: أَحَدهَا وَهِيَ رِوَايَة الْجُمْهُور (فَعَيِيَ) بِيَاءَيْنِ مِنْ الْإِعْيَاء وَهُوَ الْعَجْز، وَمَعْنَاة عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَة حُكْمهَا لَوْ عَطِبَتْ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق كَيْف يَعْمَل بِهَا. وَالْوَجْه الثَّانِي (فَعِيَ) بِيَاءٍ وَاحِدَة مُشَدَّدَة وَهِيَ لُغَة بِمَعْنَى الْأَوَّل. وَالْوَجْه الثَّالِث (فَعُنِيَ) بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْر النُّون مِنْ الْعِنَايَة بِالشَّيْءِ وَالِاهْتِمَام بِهِ، وَأَمَّا قَوْله: (أُبْدِعَتْ) فَبِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الدَّال وَفَتْح الْعَيْن وَإِسْكَان التَّاء وَمَعْنَاهُ: كَلَّتْ وَأَعْيَتْ وَوَقَفَتْ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: قَالَ بَعْض الْأَعْرَاب: لَا يَكُون الْإِبْدَاع إِلَّا بِظَلْعٍ.وَأَمَّا قَوْله: «كَيْف يَأْتِي لَهَا» فَفِي بَعْض الْأُصُول: «لَهَا» وَفِي بَعْضهَا: «بِهَا» وَكِلَاهُمَا صَحِيح.قَوْله: «لَئِنْ قَدِمْت الْبَلَد لِأَسْتَحْفِيَن عَنْ ذَلِكَ» وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «قَدِمْت الْبَلَد» وَفِي بَعْضهَا: «قَدِمْت اللَّيْلَة» وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَفِي بَعْض النُّسَخ: «عَنْ ذَلِكَ» وَفِي بَعْضهَا: «عَنْ ذَاكَ» بِغَيْرِ لَام.وَقَوْله: «لَأَسْتَحْفِيَنّ» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَبِالْفَاءِ وَمَعْنَاهُ: لَأَسْأَلَنّ سُؤَالًا بَلِيغًا عَنْ ذَلِكَ، يُقَال أَحْفَى: فِي الْمَسْأَلَة إِذَا أَلَحَّ فيها وَأَكْثَرَ مِنْهَا.قَوْله: «فَأَضْحَيْت» هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة وَبَعْد الْحَاء يَاء مُثَنَّاة تَحْت، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: مَعْنَاهُ صِرْت فِي وَقْت الضُّحَى.قَوْله: إِنَّ اِبْن عَبَّاس حِين سَأَلُوهُ (قَالَ: عَلَى الْخَبِير سَقَطْت) فيه دَلِيل لِجَوَازِ ذِكْر الْإِنْسَان بَعْض مُمَادَحَته لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اِبْن عَبَّاس ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلسَّامِعِ فِي الِاعْتِنَاء بِخَبَرِهِ، وَحَثًّا لَهُ عَلَى الِاسْتِمَاع لَهُ، وَأَنَّهُ عِلْم مُحَقَّق.قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه كَيْف أَصْنَع بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا؟ قَالَ: اِنْحَرْهَا ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمهَا ثُمَّ اِجْعَلْهُ عَلَى صَفْحَتهَا وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَد مِنْ أَهْل رُفْقَتك» فيه فَوَائِد مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا عَطِبَ الْهَدْي وَجَبَ ذَبْحه وَتَخْلِيَته لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْرُم الْأَكْل مِنْهَا عَلَيْهِ وَعَلَى رُفْقَته الَّذِينَ مَعَهُ فِي الرَّكْب، سَوَاء كَانَ الرَّفِيق مُخَالِطًا لَهُ أَوْ فِي جُمْلَة النَّاس مِنْ غَيْر مُخَالَطَة وَالسَّبَب فِي نَهْيهمْ قَطْع الذَّرِيعَة لِئَلَّا يَتَوَصَّل بَعْض النَّاس إِلَى نَحْره أَوْ تَعْيِيبه قَبْل أَوَانه.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَكْل مِنْ الْهَدْي إِذَا عَطِبَ فَنَحَرَهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ: إِنْ كَانَ هَدْي تَطَوُّع كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَل فيه مَا شَاءَ مِنْ بَيْع وَذَبْحٍ وَأَكْل وَإِطْعَام وَغَيْر ذَلِكَ، وَلَهُ تَرْكه، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي كُلّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكه، وَإِنْ كَانَ هَدْيًا مَنْذُورًا لَزِمَهُ ذَبْحه، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى هَلَكَ لَزِمَهُ ضَمَانه كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظ الْوَدِيعَة حَتَّى تَلْفِت، فَإِذَا ذَبَحَهُ غَمَسَ نَعْله الَّتِي قَلَّدَهُ إِيَّاهَا فِي دَمه، وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَة سَنَامه وَتَرَكَهُ مَوْضِعه؛ لِيَعْلَم مَنْ مَرَّ بِهِ أَنَّهُ هَدْي فَيَأْكُلهُ، وَلَا يَجُوز لِلْمُهْدِي وَلَا لِسَائِقِ هَذَا الْهَدْي وَقَائِده الْأَكْل مِنْهُ، وَلَا يَجُوز لِلْأَغْنِيَاءِ الْأَكْل مِنْهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْهَدْي مُسْتَحَقّ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَجُوز لِغَيْرِهِمْ، وَيَجُوز لِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْر أَهْل هَذِهِ الرُّفْقَة، وَلَا يَجُوز لِفُقَرَاء الرُّفْقَة، وَفِي الْمُرَاد بِالرُّفْقَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدهمَا: أَنَّهُمْ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ الْمُهْدِي فِي الْأَكْل وَغَيْره دُون بَاقِي الْقَافِلَة، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِر الْحَدِيث، وَظَاهِر نَصَّ الشَّافِعِيّ وَكَلَام جُمْهُور أَصْحَابنَا، أَنَّ الْمُرَاد بِالرُّفْقَةِ جَمِيع الْقَافِلَة؛ لِأَنَّ السَّبَب الَّذِي مُنِعَتْ بِهِ الرُّفْقَة هُوَ خَوْف تَعْطِيبهمْ إِيَّاهُ، وَهَذَا مَوْجُود فِي جَمِيع الْقَافِلَة، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تُجَوِّزُوا لِأَهْلِ الْقَافِلَة أَكْله وَتُرِكَ فِي الْبَرِّيَّة كَانَ طُعْمَة لِلسِّبَاعِ وَهَذَا إِضَاعَة مَال، قُلْنَا: لَيْسَ فيه إِضَاعَة بَلْ الْعَادَة الْغَالِبَة أَنَّ سَكَّانِ الْبَوَادِي وَغَيْرهمْ يَتْبَعُونَ مَنَازِل الْحَجّ لِالْتِقَاطِ سَاقِطَة وَنَحْوه، وَقَدْ تَأْتِي قَافِلَة فِي إِثْر قَافِلَة. وَاَللَّه أَعْلَم.«وَالرُّفْقَة» بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. قَوْله فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتِّ عَشْرَة بَدَنَة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «بِثَمَانِ عَشْرَة بَدَنَة» يَجُوز أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَيَجُوز أَنْ تَكُون قَضِيَّة وَاحِدَة وَالْمُرَاد ثَمَان عَشْرَة، وَلَيْسَ فِي قَوْله: (سِتّ عَشْرَة) نَفْي الزِّيَادَة؛ لِأَنَّهُ مَفْهُوم عَدَد، وَلَا عَمَل عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم..باب وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَسُقُوطِهِ عَنِ الْحَائِضِ: 2350- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَد حَتَّى يَكُون آخِر عَهْده بِالْبَيْتِ» فيه دَلَالَة لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ طَوَاف الْوَدَاع، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَم، وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْهُمْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَالْحَكْم، وَحَمَّاد، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَة، وَأَحْمَد، وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ مَالِك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر: هُوَ سُنَّة لَا شَيْء فِي تَرْكه، وَعَنْ مُجَاهِد رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.2351- قَوْله: «أَمْر النَّاس أَنْ يَكُون آخِر عَهْدهمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَة الْحَائِض» هَذَا دَلِيل لِوُجُوبِ طَوَاف الْوَدَاع عَلَى غَيْر الْحَائِض وَسُقُوطه عَنْهَا، وَلَا يَلْزَمهَا دَم بِتَرْكِهِ، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ عُمَر وَابْن عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَأُبَيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَمَرُوهَا بِالْمَقَامِ لِطَوَافِ الْوَدَاع، دَلِيل الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث وَحَدِيث صَفِيَّة الْمَذْكُور بَعْده.2352- قَوْله: (فَقَالَ اِبْن عَبَّاس إِمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَة الْأَنْصَارِيَّة) هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَفَتْح اللَّام وَبِالْإِمَالَةِ الْخَفِيفَة، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور، وَقَالَ الْقَاضِي: ضَبَطَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَصِيلِيّ (إِمَّالِي) بِكَسْرِ اللَّام، قَالَ: وَالْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب فَتْحهَا، إِلَّا أَنْ تَكُون عَلَى لُغَة مَنْ يُمِيل، قَالَ الْمَازِرِيّ: قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: قَوْلهمْ: اِفْعَلْ هَذَا إِمَّا لَا، فَمَعْنَاهُ اِفْعَلْهُ إِنْ كُنْت لَا تَفْعَل غَيْره، فَدَخَلَتْ (مَا) زَائِدَة (لِأَنَّ) كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَإِمَّا تَرَينّ مِنْ الْبَشَر أَحَدًا} فَاكْتَفُوا بِلَا عَنْ الْفِعْل، كَمَا تَقُول الْعَرَب: إِنْ زَارَك فَزُرْهُ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ اِبْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب: أَصْل هَذِهِ الْكَلِمَة (إِنْ وَمَا) فَأُدْغِمَتْ النُّون فِي الْمِيم (وَمَا) زَائِدَة فِي اللَّفْظ لَا حُكْم لَهَا، وَقَدْ أَمَالَتْ الْعَرَب (لَا) إِمَالَة خَفِيفَة، قَالَ: وَالْعَوَام يُشْبِعُونَ إِمَالَتهَا فَتَصِير أَلِفهَا يَاء، وَهُوَ خَطَأ، وَمَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَفْعَل هَذَا فَلْيَكُنْ هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَم.2353- قَوْلهَا: (صَفِيَّة بِنْت حُيَيّ) بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرهَا الضَّمّ أَشْهَر، وَفِي حَدِيثهَا دَلِيل لِسُقُوطِ طَوَاف الْوَدَاع عَنْ الْحَائِض وَأَنَّ طَوَاف الْإِفَاضَة رُكْن لابد مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُط عَنْ الْحَائِض وَلَا غَيْرهَا، وَأَنَّ الْحَائِض تُقِيم لَهُ حَتَّى تَطْهُر فَإِنْ ذَهَبَتْ إِلَى وَطَنهَا قَبْل طَوَاف الْإِفَاضَة بَقِيَتْ مُحْرِمَة، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيث صَفِيَّة هَذَا وَبَيَان إِحْرَامه وَضَبْطه وَمَعْنَاهُ وَفِقْهه فِي أَوَائِل كِتَاب الْحَجّ فِي بَاب بَيَان وُجُوه الْإِحْرَام بِالْحَجِّ.2356- قَوْله: (حَدَّثَنِي الْحَكَم بْن مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَمْزَة عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، لَعَلَّهُ قَالَ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَائِشَة) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ مُعْظَم النُّسَخ، قَالَ: وَسَقَطَ عِنْد الطَّبَرِيّ. قَوْله: (لَعَلَّهُ قَالَ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير) قَالَ: وَسَقَطَ (لَعَلَّهُ قَالَ) فَقَطْ لِابْنِ الْحَذَّاء، قَالَ الْقَاضِي: وَأَظُنّ أَنَّ الِاسْم كُلّه سَقَطَ مِنْ كُتُبِ بَعْضهمْ أَوْ شَكّ فيه فَأَلْحَقهُ عَلَى الْمَحْفُوظ الصَّوَاب، وَنَبَّهَ عَلَى إِلْحَاقه بِقَوْلِهِ: (لَعَلَّهُ).قَوْله: «قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه إِنَّهَا قَدْ زَارَتْ يَوْم النَّحْر» فيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَهْل الْعِرَاق أَنَّهُ لَا يُكْرَه أَنْ يُقَال لِطَوَافِ الْإِفَاضَة: طَوَاف الزِّيَارَة، وَقَالَ مَالِك: يُكْرَه، وَلَيْسَ لِلْكَرَاهَةِ حُجَّة تُعْتَمَد. قَوْلهَا: (تَنْفِر) بِكَسْرِ الْفَاء وَضَمِّهَا وَالْكَسْر أَفْصَحُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن. وَاَللَّه أَعْلَم..(بَاب اِسْتِحْبَاب دُخُول الْكَعْبَة لِلْحَاجِّ وَغَيْره وَالصَّلَاة فيها وَالدُّعَاء فِي نَوَاحِيهَا كُلّهَا): ذَكَرَ مُسْلِم رَحِمه اللَّه فِي الْبَاب بِأَسَانِيدِهِ عَنْ بِلَال رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَة وَصَلَّى فيها بَيْن الْعَمُودَيْنِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فِي نَوَاحِيهَا وَلَمْ يُصَلِّ» وَأَجْمَع أَهْل الْحَدِيث عَلَى الْأَخْذ بِرِوَايَةِ بِلَال، لِأَنَّهُ مُثْبَت، فَمَعَهُ زِيَادَة عِلْم فَوَاجِب تَرْجِيحه، وَالْمُرَاد الصَّلَاة الْمَعْهُودَة ذَات الرُّكُوع، وَالسُّجُود، وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عُمَر: وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلهُ: كَمْ صَلَّى؟ وَأَمَّا نَفْي أُسَامَة فَسَبَبه أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَة أَغْلَقُوا الْبَاب، وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ، فَرَأَى أُسَامَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، ثُمَّ اِشْتَغَلَ أُسَامَة بِالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَة مِنْ نَوَاحِي الْبَيْت، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَة أُخْرَى، وَبِلَال قَرِيب مِنْهُ، ثُمَّ صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ بِلَال لِقُرْبِهِ، وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَة لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَاله، وَكَانَتْ صَلَاة خَفِيفَة فَلَمْ يَرَهَا أُسَامَة لِإِغْلَاقِ الْبَاب مَعَ بُعْده وَاشْتِغَاله بِالدُّعَاءِ، وَجَازَ لَهُ نَفيها عَمَلًا بِظَنِّهِ، وَأَمَّا بِلَال فَحُقِّقَهَا فَأَخْبَرَ بِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة إِذَا صَلَّى مُتَوَجِّهًا إِلَى جِدَار مِنْهَا أَوْ إِلَى الْبَاب وَهُوَ مَرْدُود، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: تَصِحّ فيها صَلَاة النَّفْل وَصَلَاة الْفَرْض، وَقَالَ مَالِك: تَصِحّ فيها صَلَاة النَّفْل الْمُطْلَق، وَلَا يَصِحّ الْفَرْض وَلَا الْوِتْر وَلَا رَكْعَتَا الْفَجْر وَلَا رَكْعَتَا الطَّوَاف، وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير وَأَصْبَغ الْمَالِكِيّ وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر: لَا تَصِحّ فيها صَلَاة أَبَدًا لَا فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا، وَدَلِيل الْجُمْهُور حَدِيث بِلَال وَإِذَا صَحَّتْ النَّافِلَة صَحَّتْ الْفَرِيضَة؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَوْضِع سَوَاء فِي الِاسْتِقْبَال فِي حَال النُّزُول، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْتِقْبَال فِي حَال السَّيْر فِي السَّفَر. وَاَللَّه أَعْلَم.2358- قَوْله: (وَعُثْمَان بْن طَلْحَة الحَجَبِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَالْجِيم مَنْسُوب إِلَى حِجَابَة الْكَعْبَة، وَهِيَ وِلَايَتهَا وَفَتْحهَا وَإِغْلَاقهَا وَخِدْمَتهَا، وَيُقَال لَهُ وَلِأَقَارِبِهِ: الْحَجَبِيُّون وَهُوَ عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة، وَاسْم أَبِي طَلْحَة: عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْعُزَّى بْن عُثْمَان بْن عَبْد الدَّار بْن قُصَيّ الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ، أَسْلَمَ مَعَ خَالِد بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاصِ فِي هُدْنَة الْحُدَيْبِيَة، وَشَهِدَ فَتْح مَكَّة، وَدَفَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة إِلَيْهِ وَأَبِي شَيْبَة بْن عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة وَقَالَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَة خَالِدَة تَالِدَة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِم» ثُمَّ نَزَلَ الْمَدِينَة فَأَقَامَ بِهَا إِلَى وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اُسْتُشْهِدَ يَوْم (أَجْنَادِين) بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرِهَا، وَهِيَ مَوْضِع بِقُرْبِ بَيْت الْمَقْدِس كَانَتْ غَزْوَته فِي أَوَائِل خِلَافَة عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيح قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ مَأْثُرَة كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحْت قَدَمِي إِلَّا سِقَايَة الْحَاجّ وَسَدَانَة الْبَيْت».قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْعُلَمَاء: لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَنْزِعهَا مِنْهُمْ، قَالَ: وَهِيَ وِلَايَة لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبْقَى دَائِمَة لَهُمْ وَلِذُرِّيَّاتِهِمْ أَبَدًا، وَلَا يُنَازَعُونَ فيها، وَلَا يُشَارَكُونَ مَا دَامُوا مَوْجُودِينَ صَالِحِينَ لِذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: «دَخَلَ الْكَعْبَة فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ» إِنَّمَا أَغْلَقَهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْكَن لِقَلْبِهِ وَأَجْمَع لِخُشُوعِهِ، وَلِئَلَّا يَجْتَمِع النَّاس وَيَدْخُلُوا وَيَزْدَحِمُوا فَيَنَالهُمْ ضَرَر وَيَتَهَوَّش عَلَيْهِ الْحَال بِسَبَبِ لَغَطهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: «جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَاره وَعَمُودًا عَنْ يَمِينه» هَكَذَا هُوَ هُنَا وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ: «عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينه وَعَمُودًا عَنْ يَسَاره»، وَهَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ، وَكُلّه مِنْ رِوَايَة مَالِك، وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ: «عَمُودًا عَنْ يَمِينه وَعَمُودًا عَنْ يَسَاره».2359- قَوْله: «قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح فَنَزَلَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَة» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَذْكُور فِي أَحَادِيث الْبَاب مِنْ دُخُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَة وَصَلَاته فيها كَانَ يَوْم الْفَتْح، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه، وَلَمْ يَكُنْ يَوْم حَجَّة الْوَدَاع. و(فِنَاء الْكَعْبَة) بِكَسْرِ الْفَاء وَبِالْمَدِّ جَانِبهَا وَحَرِيمهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: (فَجَاءَ بِالْمِفْتَحِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (الْمِفْتَاح) وَهُمَا لُغَتَانِ.قَوْله: «فَلَبِثُوا فيه مَلِيًّا» أَيْ طَوِيلًا.قَوْله: (وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلهُ كَمْ صَلَّى؟) هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَة اِبْن عُمَر، وَجَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ فيه ضَعْف عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن صَفْوَان، قَالَ: قُلْت لِعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَيْف صَنَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين دَخَلَ الْكَعْبَة قَالَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.2360- قَوْله: «فَأَجَافُوا عَلَيْهِمْ الْبَاب» أَيْ أَغْلَقُوهُ.2361- قَوْله: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْن مَسْعَدَة حَدَّثَنَا خَالِد يَعْنِي اِبْن الْحَرْث حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَوْن عَنْ نَافِع عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى الْكَعْبَة وَقَدْ دَخَلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَال وَأُسَامَة وَأَجَافَ عَلَيْهِمْ عُثْمَان بْن طَلْحَة الْبَاب، قَالَ: وَمَكَثُوا فيه مَلِيًّا ثُمَّ فُتِحَ الْبَاب فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقِيت الدَّرَجَة فَدَخَلْتُ الْبَيْت فَقُلْت: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: هَا هُنَا وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلهُمْ كَمْ صَلَّى؟» هَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة هُنَا، وَظَاهِره أَنَّ اِبْن عُمَر سَأَلَ بِلَالًا وَأُسَامَة وَعُثْمَان جَمِيعهمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَكِنَّ أَهْل الْحَدِيث وَهَّنُوا هَذِه الرِّوَايَة، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهَمَ اِبْن عَوْن هُنَا، وَخَالَفَهُ غَيْره، فَأَسْنَدُوهُ عَنْ بِلَال وَحْده، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي بَاقِي الطُّرُق، فَسَأَلْتُ بِلَالًا فَقَالَ إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة حَرْمَلَة عَنْ اِبْن وَهْب فَأَخْبَرَنِي بِلَال وَعُثْمَان بْن طَلْحَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي جَوْف الْكَعْبَة. هَكَذَا هُوَ عِنْد عَامَّة شُيُوخنَا، وَفِي بَعْض النَّسْخ (وَعُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة) قَالَ: وَهَذَا يُعَضِّد رِوَايَة بْن عَوْن، وَالْمَشْهُور اِنْفِرَاد بِلَال بِرِوَايَةِ ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.2364- قَوْلُهُ: «فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» قَوْله: «قُبُل الْبَيْت» هُوَ بِضَمِّ الْقَاف وَالْبَاء، وَيَجُوز إِسْكَان الْبَاء كَمَا فِي نَظَائِره، قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا اِسْتَقْبَلَك مِنْهَا، وَقِيلَ: مُقَابِلهَا. وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْه الْكَعْبَة» وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد بِقُبُلِهَا، وَمَعْنَاهُ: عِنْد بَابهَا.وَأَمَّا قَوْله: «رَكَعَ فِي قُبُل الْبَيْت» فَمَعْنَاهُ: صَلَّى.وَقَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ تَطَوُّع النَّهَار يُسْتَحَبّ أَنْ يَكُون مَثْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: أَرْبَعًا. وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصَّلَاة.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ الْقِبْلَة» فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْر الْقِبْلَة قَدْ اِسْتَقَرَّ عَلَى اِسْتِقْبَال هَذَا الْبَيْت فَلَا يُنْسَخ بَعْد الْيَوْم، فَصَلَّوْا إِلَيْهِ أَبَدًا.قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ سُنَّة مَوْقِف الْإِمَام، وَأَنَّهُ يَقِف فِي وَجْههَا دُون أَرْكَانهَا وَجَوَانِبهَا، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاة فِي جَمِيع جِهَاتهَا مُجْزِئَة. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيّ، وَيُحْتَمَل مَعْنَى ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ هَذِهِ الْكَعْبَة هِيَ الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبَالِهِ لَا كُلّ الْحَرَام، وَلَا مَكَّة وَلَا كُلّ الْمَسْجِد الَّذِي حَوْل الْكَعْبَة، بَلْ هِيَ الْكَعْبَة نَفْسهَا فَقَطْ، وَاَللَّه أَعْلَم.2366- قَوْله: (أَدَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْت فِي عُمْرَته؟ قَالَ: لَا) هَذَا مِمَّا اِتَّفَقُوا عَلَيْهِ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْمُرَاد بِهِ عُمْرَة الْقَضَاء الَّتِي كَانَتْ سَنَة سَبْع مِنْ الْهِجْرَة قَبْل فَتْح مَكَّة، قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب عَدَم دُخُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ فِي الْبَيْت مِنْ الْأَصْنَام وَالصُّوَر. وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ يَتْرُكُونَهُ لِتَغْيِيرِهَا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ مَكَّة دَخَلَ الْبَيْت وَصَلَّى فيه، وَأَزَالَ الصُّوَر قَبْل دُخُوله. وَاَللَّه أَعْلَم..باب نَقْضِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا: 2367- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَة عَهْد قَوْمك بِالْكُفْرِ لَنَقَضْت الْكَعْبَة وَلَجَعَلْتهَا عَلَى أَسَاس إِبْرَاهِيم فَإِنَّ قُرَيْشًا حِين بَنَتْ الْبَيْت اِسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى اِقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَفِي الْأُخْرَى: «فَإِنَّ قُرَيْشًا اِقْتَصَرَتْهَا» وَفِي الْأُخْرَى: «اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَان الْبَيْت» وَفِي الْأُخْرَى: «قَصَّرُوا فِي الْبِنَاء» وَفِي الْأُخْرَى: «قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَة».قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا بِمَعْنًى وَاحِد، وَمَعْنَى اِسْتَقْصَرَتْ: قَصَّرَتْ عَنْ تَمَام بِنَائِهَا، وَاقْتَصَرَتْ عَلَى هَذَا الْقَدْر لِقُصُورِ النَّفَقَة بِهِمْ عَنْ تَمَامهَا.وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِنْ الْأَحْكَام مِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْلَحَة، وَلَكِنْ تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا، فَتَرَكَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَمِنْهَا فِكْر وَلِي الْأَمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَأَخْذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ.وَمِنْهَا: تَأَلُّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسْن حِيَاطَتهمْ وَأَلَّا يَنْفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنْفِيرهمْ بِسَبَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فيه تَرْك أَمْر شَرْعِيّ كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْعُلَمَاء: بُنِيَ الْبَيْت خَمْس مَرَّات بَنَتْهُ الْمَلَائِكَة، ثُمَّ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَحَضَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْبِنَاء، وَلَهُ خَمْس وَثَلَاثُونَ سَنَة، وَقِيلَ: خَمْس وَعِشْرُونَ، وَفيه سَقَطَ عَلَى الْأَرْض حِين وَقَعَ إِزَاره، ثُمَّ بَنَاهُ اِبْن الزُّبَيْر، ثُمَّ الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وَاسْتَمَرَّ إِلَى الْآن عَلَى بِنَاء الْحَجَّاج، وَقِيلَ: بُنِيَ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي كِتَاب إِيضَاح الْمَنَاسِك الْكَبِير.قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يُغَيَّر عَنْ هَذَا الْبِنَاء، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَارُون الرَّشِيد سَأَلَ مَالِك بْن أَنَس عَنْ هَدْمهَا وَرَدّهَا إِلَى بِنَاء اِبْن الزُّبَيْر؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب، فَقَالَ مَالِك: نَاشَدْتُك اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا تَجْعَل هَذَا الْبَيْت لُعْبَة لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاء أَحَد إِلَّا نَقَضَهُ وَبَنَاهُ فَتَذْهَب هَيْبَته مِنْ صُدُور النَّاس. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَجَعَلْت لَهَا خَلْفًا» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان اللَّام وَبِالْفَاءِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَالْمُرَاد بِهِ بَاب مِنْ خَلْفهَا، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا» وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ هِشَام: (خَلْفًا) يَعْنِي بَابًا. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «بَابيْنِ أَحَدهمَا يُدْخَل مِنْهُ وَالْآخَر يُخْرَج مِنْهُ» وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «وَلَجَعَلْت لَهَا خِلْفَيْنِ» قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَرْبِيّ هَذَا الْحَدِيث هَكَذَا، وَضَبَطَهُ (خِلْفَيْنِ) بِكَسْرِ الْخَاء، وَقَالَ: الْخَالِفَة عَمُود فِي مُؤَخَّر الْبَيْت.وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: خَلْفَيْنِ بِفَتْحِ الْخَاء، قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ عَلَى شَيْخنَا أَبِي الْحُسَيْن، قَالَ: وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ أَنَّ الْخَلْف الظَّهْر، وَهَذَا يُفَسِّر أَنَّ الْمُرَاد الْبَاب كَمَا فَسَّرَتْهُ الْأَحَادِيث الْبَاقِيَة. وَاَللَّه أَعْلَم.2368- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ أَيْ قُرْبَ عَهْدِهِمْ بِالْكُفْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْله: (فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَة سَمِعَت هَذَا) قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْ اِبْن عُمَر عَلَى سَبِيل التَّضْعِيف لِرِوَايَتِهَا وَالتَّشْكِيك فِي صِدْقهَا وَحِفْظهَا فَقَدْ كَانَتْ مِنْ الْحِفْظ وَالضَّبْط بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَاب فِي حَدِيثهَا، وَلَا فِيمَا تَنْقُلهُ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَع فِي كَلَام الْعَرَب صُورَة التَّشْكِيك وَالتَّقْرِير، وَالْمُرَاد بِهِ الْيَقِين كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَة لَكُمْ وَمَتَاع إِلَى حِين} وَقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْت فَإِنَّمَا أَضِلّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اِهْتَدَيْت} الْآيَة.2369- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمك حَدِيثُو عَهْد بِجَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْز الْكَعْبَة فِي سَبِيل اللَّه» فيه: دَلِيل لِتَقْدِيمِ أَهَمّ الْمَصَالِح عِنْد تَعَذُّر جَمِيعهَا، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحه فِي أَوَّل الْحَدِيث: وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ إِنْفَاق كَنْز الْكَعْبَة وَنُذُورهَا الْفَاضِلَة عَنْ مَصَالِحهَا فِي سَبِيل اللَّه، لَكِنْ جَاءَ فِي رِوَايَة: «لَأَنْفَقْتُ كَنْز الْكَعْبَة فِي بِنَائِهَا» وَبِنَاؤُهَا مِنْ سَبِيل اللَّه، فَلَعَلَّهُ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «فِي سَبِيل اللَّه». وَاَللَّه أَعْلَم.وَمَذْهَبنَا أَنَّ الْفَاضِل مِنْ وَقْف مَسْجِد أَوْ غَيْره لَا يُصْرَف فِي مَصَالِح مَسْجِد آخَر وَلَا غَيْره، بَلْ يُحْفَظ دَائِمًا لِلْمَكَانِ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الَّذِي فَضَلَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا اِحْتَاجَ إِلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَأَدْخَلْتُ فيها مِنْ الْحِجْر» وَفِي رِوَايَة: «وَزِدْت فيها سِتَّة أَذْرُع مِنْ الْحِجْر فَإِنَّ قُرَيْشًا اِقْتَصَرَتْهَا حِين بِنْت الْكَعْبَة» وَفِي رِوَايَة: «خَمْس أَذْرُع» وَفِي رِوَايَة: «قَرِيبًا مِنْ سَبْع أَذْرُع» وَفِي رِوَايَة: «قَالَتْ عَائِشَة سَأَلْتُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجِدَار أَمِنَ الْبَيْت هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَفِي رِوَايَة: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمك حَدِيث عَهْدهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَخَاف أَنْ تُنْكِرهُ قُلُوبهمْ لَنَظَرْت أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْر فِي الْبَيْت» قَالَ أَصْحَابنَا: سِتّ أَذْرُع مِنْ الْحِجْر مِمَّا يَلِي الْبَيْت مَحْسُوبَة مِنْ الْبَيْت بِلَا خِلَاف، وَفِي الزَّائِد خِلَاف فَإِنْ طَافَ فِي الْحِجْر وَبَيْنه وَبَيْن الْبَيْت أَكْثَر مِنْ سِتَّة أَذْرُع فَفيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدهمَا: يَجُوز لِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَحَهُ جَمَاعَات مِنْ أَصْحَابنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ.وَالثَّانِي: لَا يَصِحّ طَوَافه فِي شَيْء مِنْ الْحِجْر وَلَا عَلَى جِدَاره، وَلَا يَصِحّ حَتَّى يَطُوف خَارِجًا مِنْ جَمِيع الْحِجْر، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاهِير أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيِّينَ، وَرَجَحَهُ جُمْهُور الْأَصْحَاب، وَبِهِ قَالَ جَمِيع عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبِي حَنِيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ طَافَ فِي الْحِجْر وَبَقِيَ فِي مَكَّة أَعَادَهُ، وَإِنْ رَجَعَ مِنْ مَكَّة بِلَا إِعَادَة أَرَاقَ دَمًا وَأَجْزَأَهُ طَوَافه، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مِنْ وَرَاء الْحِجْر، وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ» ثُمَّ أَطْبَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآن، وَسَوَاء كَانَ كُلّه مِنْ الْبَيْت أَمْ بَعْضه، فَالطَّوَاف يَكُون مِنْ وَرَائِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّه أَعْلَم.وَوَقَعَ فِي رِوَايَة: «سِتَّة أَذْرُع» بِالْهَاءِ، وَفِي رِوَايَة: «خَمْس» وَفِي رِوَايَة: «قَرِيبًا مِنْ سَبْع» بِحَذْفِ الْهَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فَفِي الذِّرَاع لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ التَّأْنِيث وَالتَّذْكِير، وَالتَّأْنِيث أَفْصَح.2370- سبق شرحه بالباب.2371- قَوْله: (لَمَّا اِحْتَرَقَ الْبَيْت زَمَن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة حِين غَزَاهُ أَهْل الشَّام تَرَكَهُ اِبْن الزُّبَيْر حَتَّى قَدِمَ النَّاس الْمَوْسِم يُرِيد أَنْ يُجَرِّئهُمْ أَوْ يُحَرِّبَهُم عَلَى أَهْل الشَّام) أَمَّا الْحَرْف الْأَوَّل فَهُوَ يُجَرِّئهُمْ بِالْجِيمِ وَالرَّاء بَعْدهمَا هَمْزَة مِنْ الْجَرَاءَة، أَيْ يُشَجِّعهُمْ عَلَى قِتَالهمْ بِإِظْهَارِ قُبْح فِعَالهمْ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي ضَبْطه، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيّ (يُجَرِّبهُمْ) بِالْجِيمِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَمَعْنَاهُ يَخْتَبِرهُمْ وَيَنْظُر مَا عِنْدهمْ فِي ذَلِكَ مِنْ حَمِيَّة وَغَضَب لِلَّهِ تَعَالَى وَلِبَيْتِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْله (أَوْ يَحْرِبهم) فَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَأَوَّله مَفْتُوح وَمَعْنَاهُ يَغِيظهُمْ بِمَا يَرَوْنَهُ قَدْ فُعِلَ بِالْبَيْتِ؛ مِنْ قَوْلهمْ: حَرِبْت الْأَسَد > إِذَا أَغْضَبْته، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يَكُون مَعْنَاهُ يَحْمِلهُمْ عَلَى الْحَرْب وَيُحَرِّضهُمْ عَلَيْهَا، وَيُؤَكِّد عَزَائِمهمْ لِذَلِكَ، قَالَ وَرَوَاهُ آخَرُونَ (يَحْزُبهُمْ) بِالْحَاءِ وَالزَّاي يَشُدّ قُوَّتهمْ وَيَمِيلهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلهُمْ حِزْبًا لَهُ وَنَاصِرِينَ لَهُ عَلَى مُخَالَفَته، وَحِزْب الرَّجُل مَنْ مَالَ إِلَيْهِ، وَتَحَازَبَ الْقَوْم: تَمَالُوا.قَوْله: (يَا أَيّهَا النَّاس أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَة) فيه دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ مُشَاوَرَة الْإِمَام أَهْل الْفَضْل وَالْمَعْرِفَة فِي الْأُمُور الْمُهِمَّة.قَوْله: (قَالَ اِبْن عَبَّاس: فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي فيها رَأْي) هُوَ بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْر الرَّاء، أَيْ كُشِفَ وَبُيِّنَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}، أَيْ: فَصَّلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة وَمَعْنَاهَا، وَهَكَذَا ضَبَطَه الْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْحُمَيْدِيّ صَاحِب الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ فِي كِتَابه غَرِيب الصَّحِيحَيْنِ (فَرَقَ) بِفَتْحِ الْفَاء بِمَعْنَى خَافَ، وَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَغَلَّطُوا الْحُمَيْدِيّ فِي ضَبْطه وَتَفْسِيره.قَوْله: (فَقَالَ اِبْن الزُّبَيْر: لَوْ كَانَ أَحَدكُمْ اِحْتَرَقَ بَيْته مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (يُجِدَّهُ) بِضَمِّ الْيَاء وَبِدَالٍ وَاحِدَة، وَفِي كَثِير مِنْهَا (يُجَدِّد) بِدَالَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنًى.قَوْله: (تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (تَتَابَعُوا) بِبَاءٍ مُوَحَّدَة قَبْل الْعَيْن وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخِ بِلَادنَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَعَنْ أَبِي بَحْر (تَتَابَعُوا)، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل بِالْمُثَنَّاةِ فِي الشَّرّ خَاصَّة، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.قَوْله: (فَجَعَلَ اِبْن الزُّبَيْر أَعْمِدَة فَسَتَرَ عَلَيْهَا السُّتُور حَتَّى اِرْتَفَعَ بِنَاؤُهُ) الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْأَعْمِدَة وَالسُّتُور أَنْ يَسْتَقْبِلهَا الْمُصَلَّوْنَ فِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَيَعْرِفُوا مَوْضِع الْكَعْبَة، وَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّتُور حَتَّى اِرْتَفَعَ الْبِنَاء وَصَارَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ فَأَزَالَهَا، لِحُصُولِ الْمَقْصُود بِالْبِنَاءِ الْمُرْتَفِع مِنْ الْكَعْبَة. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي عِيَاض بِهَذَا لِمَذْهَبِ مَالِك فِي أَنَّ الْمَقْصُود بِالِاسْتِقْبَالِ الْبِنَاء لَا الْبُقْعَة، قَالَ: وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس أَشَارَ عَلَى اِبْن الزُّبَيْر بِنَحْوِ هَذَا وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْت هَادِمهَا فَلَا تَدَعْ النَّاس بِلَا قِبْلَة، فَقَالَ لَهُ جَابِر: صَلُّوا إِلَى مَوْضِعهَا فَهِيَ الْقِبْلَة، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره جَوَاز الصَّلَاة إِلَى أَرْض الْكَعْبَة، وَيُجْزِيه ذَلِكَ بِلَا خِلَاف عِنْده سَوَاء كَانَ بَقِيَ مِنْهَا شَاخِص أَمْ لَا. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: (إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخ اِبْن الزُّبَيْر فِي شَيْء) يُرِيد بِذَلِكَ سَبَّهُ وَعَيْب فِعْله. يُقَال: لَطَّخْته، أَيْ: رَمَيْته بِأَمْرِ قَبِيح.2372- قَوْله: (وَفَدَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه عَلَى عَبْد الْمُلْك بْن مَرْوَان فِي خِلَافَته) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه) وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا خِلَاف، وَنُسَخ بِلَادنَا هِيَ رِوَايَة عَبْد الْغَفَّار بْن الْفَارِسِيّ، وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ هَكَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاة سِوَى الْفَارِسِيّ فَإِنَّ فِي رِوَايَته (الْحَرْث بْن عَبْد الْأَعْلَى) قَالَ: وَهُوَ خَطَأ بَلْ الصَّوَاب الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ رِوَايَة الْفَارِسِيّ غَيْر مَقْبُول، بَلْ الصَّوَاب أَنَّهَا كَرِوَايَةِ غَيْره الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ لِلْقَاضِي نُسْخَة عَنْ الْفَارِسِيّ فيها هَذِهِ اللَّفْظَة مُصَحَّفَة عَلَى الْفَارِسِيّ لَا مِنْ الْفَارِسِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: (مَا أَظُنّ أَبَا خُبَيْب) هُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَة عَهْدهمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء، أَيْ: قُرْبه.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِك» هُوَ بِغَيْرِ هَمْزَة، يُقَال: بَدَا لَهُ فِي الْأَمْر بَدَاء الْمَدّ، أَيْ حَدَثَ لَهُ فيه رَأْي لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ ذُو بَدَوَات، أَيْ يَتَغَيَّر رَأْيه، وَالْبَدَاء مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى بِخِلَافِ النَّسْخ.قَوْله: «فَهَلُمِّي لِأُرِيَك» هَذَا جَارٍ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ فِي (هَلُمَّ) قَالَ الْجَوْهَرِيّ تَقُول (هَلُمَّ يَا رَجُل) بِفَتْحِ الْمِيم بِمَعْنَى تَعَالَ، قَالَ الْخَلِيلِيّ: أَصْله (لَمَّ) مِنْ قَوْلهمْ: (لَمَّ اللَّه شُعْثه) أَيْ جَمَعَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لُمَّ نَفْسك إِلَيْنَا أَيْ أَقْرِب و(هَا) لِلتَّنْبِيهِ وَحُذِفَتْ أَلِفهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال وَجُعِلَا اِسْمًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فيه الْوَاحِد وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْع وَالْمُؤَنَّث، فَيُقَال فِي الْجَمَاعَة (هَلُمَّ) هَذِهِ لُغَة أَهْل الْحِجَاز، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وَأَهْل نَجِد يَصْرِفُونَهَا فَيَقُولُونَ لِلِاثْنَيْنِ (هَلُمَّا) وَلِلْجَمْعِ (هَلُمُّوا) وَلِلْمَرْأَةِ (هَلُمِّي) وَلِلنِّسَاءِ (هَلُمَّنَ) وَالْأَوَّل أَفْصَح، هَذَا كَلَام الْجَوْهَرِيّ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُل» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ كُلّهَا: «كَادَ أَنْ يَدْخُل» وَفيه حُجَّة لِجَوَازِ دُخُول (أَنْ) بَعْد (كَادَ)، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ، وَهِيَ لُغَة فَصَيْحَة، وَلَكِنَّ الْأَشْهَر عَدَمه.قَوْله: «فَنَكَتَ سَاعَة بِعَصَاهُ» أَيْ بَحَثَ بِطَرَفِهَا فِي الْأَرْض، وَهَذِهِ عَادَة مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْر مُهِمّ.2373- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حِدْثَان قَوْمك» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء وَإِسْكَان الدَّال أَيْ قُرْب عَهْدهمْ بِالْكُفْرِ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: (فَقَالَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة، لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَأَنَا سَمِعْت أُمّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّث) هَذَا فيه الِانْتِصَار لِلْمَظْلُومِ، وَرَدّ الْغِيبَة، وَتَصْدِيق الصَّادِق إِذَا كَذَّبَهُ إِنْسَان، وَالْحَرْث هَذَا تَابِعِيّ، وَهُوَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه بْن عَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة.
|